الفساد والفشل كشرف سياسي في العراق

هسبريس المغربية

الفساد والفشل كشرف سياسي في العراق

  • منذ 1 يوم
  • العراق في العالم
حجم الخط:

في الغرف المغلقة للمفاوضات السياسية وفي زوايا التقارير الحكومية، هناك “واقع” يُحاك في الخفاء. وفي وسط هذا المشهد، يعاني العراق، كما لم يعاني في تاريخه المعاصر، من خيبة أمل تُعادل شبحًا يطارد حكوماته المتعاقبة منذ عام 2003، ففي حكومة محمد شياع السوداني التي تقدم بوصفها مثالا. فهذا الشبح هو “الفشل” ليس مجرد فشل مادي في السياسة، ولكن فشل متجذر في فهم السياسة ذاتها وتقديم بدائل مزيفة بوصفها سياسة ناجحة!

قد تبدو الصورة الإعلامية التي تروجها الحكومة مُبهرجة على سطحها، إذ تتحدث عن مشاريع إصلاحية، وخطط للطاقة، واستقرار أمني غير مسبوق. لكن المعضلة في العراق تكمن في أن هذا الخطاب يُقدّم كـ”صورة في معركة أزلية”، كما لو أن الشعب العراقي لا يزال يعيش في إطار معركة “الوجود” على مستوى الإدراك، غير مدرك أن الواقع السياسي لا يعكس سوى الحافة التي انزلق إليها البلد في منحدر الجشع السياسي وانكسار مفهوم الوطنية العراقية عندما صار العراقي يعرف نفسه بطريقة تغيب فيه عراقيته لحساب هوامش تقسيمية. ذلك ما يتفق تماما مع أهداف أحزاب وميليشيات إيران الحاكمة في العراق المخطوف.

على الرغم من أن الفساد أصبح جزءًا من الهيكلية السياسية في العراق، فإن ما يجعل المعضلة أكثر تعقيدًا هو أن هذا الفساد قد أُعيد إنتاجه على مستوى “النظام الموازٍ” للدولة “هل يوجد تعريف متفق عليه لمفهوم الدولة في العراق وسط سلاح الميليشيات والولائات الخارجية؟”. القتال الميليشياوي للاستيلاء على دائرة زراعة الكرخ في الدورة يمنحنا جزء من الإجابة.

في الحقيقة، لم يعد الفساد مجرد آفة تتنقل بين المسؤولين بل صار “نظامًا” يلتهم كل شيء. في الخفاء، هناك شبكة هائلة من المصالح المتشابكة بين الأحزاب الطائفية والمصارف، وبين رجال الأعمال وزعماء الميليشيات والسياسيين الذين يتلاعبون بكل ما يمكنه أن يحمل صفة “المال العام”.

إنك إذا نظرت إلى الوضع في العراق عبر هذه العدسة، ستدرك أن السلطة ليست فقط تتحدث عن مشاريع خيالية، بل هي أكثر من ذلك بكثير؛ هي التي تهيمن على الرؤية الوطنية نفسها، وتحوّل العراق إلى “دولة احتكارية طائفية” تطبق عليه التجارب الاجتماعية المعاصرة للأنظمة السلطوية. في هذه الدولة، يُستخدَم المال ليس لتعزيز القدرة الاقتصادية، ولكن لترسيخ الفشل وحكم المذهب. وبذلك، أصبح الفساد جزءًا من طبيعة الحكم، يشكل “المعنى البديل” للتقدم والتطور.

لكن الأخطر من ذلك، أن هذا الفساد بدأ يُروج على أنه “شرف سياسي”. أصبح التواطؤ مع الأزمات، والعيش على أطلال الفشل، أسلوبًا لتقوية الحصص السياسية، لا لمجرد التعايش معه. كما لو أن كل أزمة هي فرصة جديدة لتكرار الكذبة، لتقديم صورة مختلفة على أنها تقدم، بينما هي في الواقع مجرد غطاء لما يعصف بالمجتمع العراقي من تهديدات على مستوى السلم الاجتماعي والأمني.

في النهاية، أصبح العراق عبارة عن مسرح سياسي يعيد تمثيل أزمات مكررة، فلا يبدأ أحد من نقطة جديدة. نحن في الواقع أمام “لادولة” تُعالج أزماتها الكبرى بنفس الأدوات التي أنتجت تلك الأزمات أصلاً: التحالفات الطائفية، المحاصصة، والتمويل الأجنبي الذي يُشترى به الولاء لا الاستقلالية. ما يحدث هنا ليس مجرد عملية فشل في التخطيط الاقتصادي والسياسي، بل هو تلاعب بحياة الناس وتقديمهم كأدوات في عرض مسرحي رث يعاد تمثيله.

هنا يظهر، بل يتجلى، أحد أعمق التناقضات السياسية في العراق: تقديم الفشل السياسي على أنه “إنجاز”. منذ أكثر من عقدين، استمرت حكومات ما بعد احتلال العراق في لعب هذه اللعبة. إذا استمعت إلى تصريحات محمد شياع السوداني أو نوري المالكي أو عمار الحكيم الأخيرة، لوجدت أن كلماتهم تغطي على الفوضى، بينما يبقى الشعب يواجه “الواقع الهائل” بأن كل كلمة لا تتعدى كونها محاولة جديدة لصناعة “إصلاح” ليس له أي وجود في الميدان.

تصريحات السوداني والمالكي والحكيم، التي زعموا فيها أن “العراق يسير في الطريق الصحيح”، تثير الازدراء السياسي أكثر من أي وقت مضى، خاصة عندما تُقارن بالواقع الذي يشهد انعدام الثقة في مؤسسات الدولة. وتصرّح حكومة السوداني بأن العراق يشهد “استقرارًا أمنيًا”، في الوقت الذي تنتشر فيه المليشيات في الشوارع مثل “دولة موازية”. هذه المتناقضات ليست فقط مسألة فشل سياسي، بل هي خيانة مستمرة للوقت والشعب.

العراق يعيش اليوم في عُزلة سياسية غير مرئية، حيث تتحول السياسة إلى نوع من “العقوبات الوجودية”. السياسة ليست فقط حول تحسين ظروف المعيشة أو توفير الأمن، بل هي أيضًا حول بناء “حياة معنوية” للمجتمع، بحيث يشعر الإنسان العادي بأن له دورًا في تغيير مسار الدولة. لكن في العراق، تُتاجر الحياة اليومية بمشاريع وهمية، وتُبتلع أحلام الأجيال القادمة في “دهاليز السلطة” حيث يغيب المستقبل ويتلاشى الأمل.

السلطة الطائفية، التي أضحت جزءًا لا يتجزأ من الجغرافيا السياسية، تعمل على تكرار الإخفاقات بدلاً من علاجها. هذه السلطة لا تبني المستقبل، بل تدير الحاضر كما لو كان مزادًا سياسيًا دائمًا. في هذه المعادلة، يصبح الفشل هو النجاح الوحيد المسموح به. هذا النظام لا يكتفي بتطبيق مبدأ “من يزرع الفشل يحصد الفشل”، بل يعيد تجديده على أنه شيء طبيعي في “قصة النجاح” العراقية.

لا يمكن للفساد أن يُعاش كحقيقة ثابتة، ولا يمكن أن يتحول الفشل إلى نجاح بفعل الأدوات الإعلامية البراقة. العراق بحاجة إلى إعادة تأسيس معاني السياسة، لا بتكرار المقولات القديمة، بل من خلال مواجهة ما هو كامن في عمق الصورة: تدمير الإنسان السياسي وحصار الواقع السياسي في شبكة من الأكاذيب.

The post الفساد والفشل كشرف سياسي في العراق appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.



عرض مصدر الخبر



تطبيق موسوعة الرافدين




>